برتقالة الميلاد:
كوّنتُ فريقاً من أعضاء كنيستي لكيّ نفتقد الملاجيء ونشارك أبنائها فرحة عيد الميلاد المجيد ويتم توزيع الهدايا لهم لكيّ لا يشعرون بالوحدة .. فقررت أن أذهب بنفسي أولاً إلي إحدي الملاجيء , لكي أحدد ترتيب الزيارة مع المسئول , وفي الميعاد كنت في الحديقة الخارجية من مبني الملجأ , فوجدت رجلاً جالساً علي ركبتيه في الحديقة وحوله بعض الصبية الصغار يزينون شجرة الميلاد , وحاولتُ أن ألفت نظرهُ إليّ لكي أسألهُ عنْ مكان المدير فلم أستطعْ لأنه كان أكثر إنهماكاً مع الأطفال في الضِحك واللَهو والعَمل معهم ..
مِن بعيد وجدتُ سيدة جميلة في الخمسينات من عمرها تحمل سَلة مملوءة بالبرتقال , وتحمل علي ذراعها الآخر طفلة جميلة لها خدود البرتقال , تقدمت إليها وسألتها عن مكان المدير, فرحبت بي جداً وأشارتْ إلي مبني ليس ببعيد حيث يُوجد مكتبهُ .. شَكرتُها وصعدتُ الدور الثاني ودخلتُ حُجرة السكرتيرة وأخبرتُها عنْ وجود مِيعاد مع مستر توماس .. قالت نعم سوف يأتيك حالاً في الميعاد المُحدد .. بعد بُرهة وجدتُ الرجلَ الذي كان يداعب الأطفال يدخل علينا ويتقدم لي بإبتهاج وفرح وسرور, ويقدم نفسَهُ بإسم توماس المسئول عن هذا الصرح العظيم .. إندهشتُ وقلتُ لهُ أنتَ .... ؟؟!!
.. قال لي نعم : وبعد بُرهة دخلت السيدة التي وصفت لي مكان المكتب وقدمت نفسَها علي أنها توماس سيلفيا , زوجتهُ .. إندهشتُ أكثر .. قالتْ : لا تندهش يا عزيزنا فنحنُ من أبناء هذا المكان .. فقد تربينا هنا .. وسوف أكون شاكرة لو قرأتَ قصتنا من هذا الكُتيب الذي أعطيه لك الآن .. ناولتني كُتيب بعنوان ( برتقالة .. الكريسماس) ووضعتُهُ في حقيبتي .. تباحثنا في الترتيبات وشكروني جداً وصلينا من أجل هذه الخدمة الصعبة وهي إدارة الملاجيء بهذه الكيفية التي رأيتها من مستر توماس وزوجته سيلفيا ... أثناء رِجوعي بالمترو .. أخْرجتُ من حقيبتي الكُتيبْ الذي أعطتهُ لي مدام توماس , فوجدتها قصة حب عظيمة ومثمرة قامت بين توماس وسيلفيا .. فقد كان هذا الملجأ يُديرهُ رجل وسيدة شرسين في المعاملة , وقد إتخذا هذه الخدمة ليست من باب الشفقة والرحمة علي الأبناء الذين فقدوا والديهم .. بل إتخذوها حرفة يسترزقان منها .. فقد أساءا إستعمال هذا المبني وحوّلاه إلي مبني لرعاية الأطفال الذين مات اولياء امورهم ولهم أقارب يدفعون لهما مقدار من المال شهريا مقابل هذه الخدمة .. أما الأيتام بدون معارف فقد كانا يستخدمانهم في أعمال التنظيف والترتيب والغسيل والإهتمام بالحدائق وترتيب الحجرات الخاصة بالأبناء ذوي المعارف .. وكان الأطفال الفقراء يسكنون في أكواخ من الخشب في قطعة الأرض التي كانت تقع خلف المبني الرئيسي ويفصل بين هذه الأرض والمبني سور من السلك الشائك , وكل فرد له فرش وبطانية قديمة لكي يتلحف بها في أيام الشتاء القارص ..
وكانت ليلة عيد الميلاد ( الكريسماس ) بالنسبة لهؤلاء الأطفال بمثابة أجمل أيام السنة , لأنه اليوم الوحيد الذي فيه يقفون في صف واحد ليتلقوا العطية الوحيدة في السنة كلها من أصحاب الملجأ عن طريق بابا نويل المحمل بالهدايا أولا لأبناء الأغنياء ثم يذهب إليهم لكي يعطيهم عطاياهم .. وكانت العطية لكل واحد فيهم عبارة عن برتقالة واحدة .. كانت البرتقالة هذه بالنسبة لهم أكلة شهية , وثانيا كانوا يشعرون بأن هناك أناسا يهتمون بهم حتي ولو للحظة في السنة ... وفي إحدي أيام عيد الميلاد حيث كانت آخر سنة لتوماس في الملجأ لأنه سوف يبلغ العمر الذي يجعله يترك الملجأ إلي الحياة العملية , ويشق طريقه لوحده في ظلام الحياة , كان يحمل بعض الأطباق لكي يضعهم علي المائدة ومن فرحته لأنه سوف ينتهي من هذا الحبس كان يتخايل في مشيته حتي أوقع الأطباق ليتهشموا علي الأرض .. وكان عقابه هو عدم أخذ العطية وهي البرتقالة , والتي كان دائما يعتز بها طيلة السنوات الماضية , فهو لم يكن يأكلها في يوم واحد .. بل كان يأكل كل يوم فص واحد منها , ويُبقي علي قشرها بالأسابيع ليتمتع برائحتها وهو نائم تحت البطانية حتي تذبل وتنشف ... ذهب توماس إلي كوخه حزينا مهموما وأخذ يبكي لأنه سوف يُحرم من البرتقالة التي ينتظرها مرة في كل عام .. وبعد وقت غير طويل وجد باب كوخه ينفتح ببطيء , وتدخل منه سيلفيا وبيدها مجموعة من فصوص البرتقال , وقالت له .. إخوتك إتفقوا فيما بينهم أن كل فرد يخصص لك فص من برتقالته .. أما أنا فسأعطيك واحدة كاملة كانت تخصني .. ثم خرجت وقالت لي عيد ميلاد مجيد .. إندهشت جداً من هذه المحبة التي أظهروها إخوتي في ليلة ميلاد رئيس السلام الرب يسوع ... وبعد 4 شهور جاء وقت رحيل توماس من هذا المكان , وبالرغم أنه قاسي فيه وتحمل المتاعب , إلاّ أنه تعلق به .. كما أنه أحس أنه سوف يصبح في غربة لبعدِهِ عنْ مَنْ تربي معهم منذ نعومة أظافرهُ ... خرج من المركز , وذهب إلي إحدي المطاعم لكي يعمل فيه عامل نظافة , كان الراعي الذي كان يخدم في كنيسة المركز قد أوصي صاحب هذا المطعم من قبل ليقبله عنده كعامل نظافة .. وكان صاحب المطعم رجلا طيبا , أعطاه السماح أن يبيت في المخزن الملحق بالمطعم .. وأخذ يعمل ليل ونهار حتي جائته الفرصة بأن يلتحق بإحدي المدارس .. تفوق في الدراسة وفي العمل حتي إنتهي من مرحلته الثانوية ودخل المرحلة الجامعية لكي يدْرِس تربية الأطفال وتعليمهم .. وبعد ما إنتهي من الدراسة , وجد إعلان غريب أدهشهُ في الصحف أن مركز الأيتام الذي تربي فيه يحتاج إلي مدرس أطفال بنفس الشهادة التي حصل عليها .. لم يتردد وذهب لكي يقابل أصحاب المركز بعد غياب حوالي12 سنوات .. دخل إلي حجرة المدير بميعاد سابق قد إتخذه بالتليفون , وإذ يجد فتاة جالسة علي مكتب المدير .. وعندما رأته الفتاة قامت إليه وبسرعة كادت تحتضنهُ , جرت إليهِ وصاحتْ .. توماس !! أنت توماس ؟! فقد عرفتك فأنت لم تتغير كثيرا...فُوجيء توماس بهذا الترحيب , ووقف مذهولاً , حتي قالت له .. أنا سيلفيا .. كاد هو الآخر يأخذها في حضنِهِ , فقد كان دائما يفكر فيها .. وعرف منها الحقيقة .. أن صاحب هذا المركز هو والدها والذي مات في حادثة هو ووالدتها , وهي تم إنقاذها , وقبل أن يلفظ أباها أنفاسه الأخيرة , أوصي أخيه بأن يجعل بيتَهُ الكبير مركزا للأيتام , وتكون إبنته سيلفيا إحدي نزيلاتها , وعندما تكبر تتولي هي إدارة المركز .. وفعلا عندما كبرت سيلفيا إستلمت المركز وطردت المدير السابق هو وزوجته .. والآن يا توماس ما رأيك هل لديك الإستعداد أن تقف بجانبي لإدارة هذا المركز لكن بطريقة مختلفة ؟.. رد توماس وقال لها هل لديك أولاً الإستعداد أن تقفي بجانبي لإدارة بيتنا الصغير والذي أأمل بأن تكوني أنت مديرته ؟ .. ردت عليه : لكن لي شرط أن نهدم جميع الأكواخ ونبقي علي واحدِ فقط لكي نبدأ فيه مشروعنا العظيم من أجل هؤلاء الأبناء ........... ثم قدمت لي ( برتقالة .. عيد الميلاد المجيد ) والتي إشتقت إليها منذ أكثر من 12 سنوات مضت ....!!!!!!!!!!