هذه قصة قصيره تعبر لنا عن الحياه التى يجب أن يعيشها كل إنسان مسيحى... فربما قد نـُوجد في مكان ربما لم نخطط أن نكون فيه.. و وسط أناس لم نحب أن نكون بينهم ( ربما بسبب طباعهم، شرهم، تقاليدهم أو عداتهم أو أى سبب أخر... لكن ربما ربنا يريدنا ن نكون فى هذا المكان .. ووسط هؤلاء الناس... وهنا يأتى الاختبار.... "أتحبنى....؟" هنا يسأل ربنا ويظهر جوابنا"..... فإن كنا نحبه.. ستظهر محبتنا له فى هذا المكان ووسط هؤلاء الناس تظهر صورته فينا... فيروا أعمالنا فيمجدوه.
عقب الصلاة الصباحية، غادر الراهب الشاب الدير متوجها الى المدينة فى بعض شئون الدير، لم يحمل معه سوى إنجيله ثبته فى المنطقة الجلدية التى تشد حقويه، ثم السترة الجلدية واضعا إياها على كتفه وهى التى كانت تسمى فى الطقس الرهبانى عندنا فى مصر "بالجلد" حيث كان الطقس فى ذلك الوقت من العام قارس البرودة.
وكان ماريو يعرف الطريق الذى سيتخذه للوصول الى المدينة سيرا على الأقدام، وكانت الثلوج ماتزال متكدسة فوق الطريق بشكلها القطنى الرائع، إذ لم تكن أشعة الشمس الخافتة قد استطاعت بعد أن تذيبها. وهكذا راح ينقل قدما بعد أخرى وهما تغوصان فى الأرض. ومرت بذاكرته تلك الأيام البعيدة حيث كان يعشق رياضة التزلج على الجليد وتسلق الجبال أحيانا، وفى حين التحق أخوه بإحدى هيئات الإغاثة، آثر هو الانضمام الى هذه الأخوية الرهبانية فى الجبال القريبة من "جنوا" بإيطاليا.
وبينما كانت تستهويه فكرة الانعزال الكلى متأثرا بسير القديسين أمثال ساروفيم ساروفيكى والقديس بائيسيوس الروسى وغيرهما ممن أثروا الاعتزال فى الكهوف، كان رئيس الدير يستمهله فى ذلك مشفقا عليه من وعورة الطريق وقلة خبرته، غير أنه ما فتئ أن يحاول مرة بعد أخرى بالرغم من أنه رُوّع مما قرأه عن الجنود الروس إبان فترة الشيوعية وكيف ضربوا مغائر المتوحدين بالنابالم، وقبضوا على أخرين معذبين إياهم.
الآن وبعد ان قضى فى الرهبنة بين هذه الجماعة التى تضم أربعة عشر راهبا، مدة أربع سنوات وبضعة اشهر، يئن مشتاقا الى حياة "لا نظامية" على حد تعبيره، غير عابئ بما سيحتاجه من طعام وماء. ولكنها فى النهاية كانت مجرد أفكار تراوده فقط بين الحين والحين.
كان ماريو قد قطع نصف الطريق من الدير الى المدينة، فرأى أن يستريح لبعض الوقت وجاءت جلسته على بعد من فجوة فى الجبل أشبه ماتكون بكهف أو مغارة، كان يراها خلال تلك المهمات التى كلفه الدير بها من قبل، وكم تمنى من قلبه أن تتاح له الفرصة ليحيا فى كهف مثل ذلك متى سمح له القائمون على الدير، ومع كل ذلك فقد كان يرى فى الطاعة بركة وثمرا أكثر من ذلك الذى يأمله فى الوحدة.
وشعر بالجوع وفيما هو يتناول بعض الفاكهة التى حصل عليها من المتزلجين العائدين الى ديارهم شعر بالرغبة فى الاسترخاء وسرعان ما سرى الخدر فى جسده فنام، وما هى إلا دقائق حتى استيقظ على صوت أجش آمر، فانتبه وإذا هو أمام بناء إنسانى ضخم قاسى الملامح غريب الثياب، صاح فيه ليرفع يديه لأعلى. وتردد من المفاجأه، ولم يدر ماذا يفعل وعاد الصوت ليهدر مثل الرعد.
قم وارفع يديك قبل ان احطم عظامك.
ففعل وهو فى ذهول، فتلقى أسئلة سريعة مقتضبة عن اسمه وهويته وسبب مجيئه الى المكان، ولكنه ما كاد يجيب حتى تجمع حوله عدد من الرجال البولونيون ذوى الجثث الضخمة والكروش المنتفخة والشوارب المفتولة وملامح تتماشى مع هذه البانوراما. وأدرك " ماريو" على الفور أنه واقع بين ايدى إحدى عصابات المافيا، ولم يكن قد رآهم حتى ذلك الوقت إلا من خلال الصور والأفلام والقصص المتواترة عنهم، وكان أحد أقربائه قد قُتل منذ سنوات على أيدى إحدى عصاباتهم.
لقد كانوا يجلسون عند مدخل الكهف من الداخل يرقبونه ظانين أنه إنما قد جاء ليراقبهم ويتجسس عليهم فبادروا بالقبض عليه، ولم تعفه ملامحه الطيبه ولا ثيابه الرهبانية، إذ كانوا يدركون أن رجال البوليس يتنكرون فى ألف شكل وشكل. وفى ثوان معدودة قاموا بتقييد يديه ثم راحوا يدفعونه أمامهم دفعا بعد أن فتشوه جيدا، وحتى عندما وجدوا إنجيله معلقا فى منطقته لم يصدقوه بل اتفقوا على الظن بأنه مدسوس عليهم. وفى داخل الكهف كان هناك شخص- بدا من حديثهم معه أنه رئيسهم- كان فى الانتظار ليستجوبه بنفسه، وهو الذى طلب اليهم حلّه من قيوده.
كان الكهف على عكس ما كان يتوقع، متسعا ومجهزا بكافة أسباب الراحة، أشبه ما يكون بدور أرضى كامل، أما هو فشّتان بين ما كانه فى الصباح كملاك بين طغمة سمائية داخل الدير، ووقفته الآن أسيرا بين جماعة من اللصوص قد تجهز عليه بين لحظة وأخرى، وقال فى نفسه: "الجميع بشر: نحن وهم، وقد نكون نحن فى بعض جوانبنا لصوصا بينما يكونون هم فى بعض ميولهم وخصالهم رهبانا.... من يدرى"
ولم يخف على أية حال، فى حين أن نظراتهم إليه كانت توحى بأنهم سيأكلونه أكلا، وكان هناك سلام عجيب يسرى فى اوصاله، فالله الذى خرج من أجله: هو سيهتم به، وامر كبيرهم بأن يضعوه فى حجرة ريثما ينتهون من بعض شئونهم، غير أنهم تركوه حتى ساعة متأخرة من الليل ينهشه الجوع ويتنفس بمشقة، ويتحرك فى مكانه بصعوبة كبيرة... ومع ذلك فقد راح يصلى فى فرح.
عندما التأم شمل جماعتهم قرب الفجر، أحضروه من جديد وبدأ رئيسهم فى استجوابه.
من عـّرفك بهذا المكان.
لا أحد... لقد كنت أستريح فقط من وعثاء السفر الى المدينة.
ألم تأت الى هنا من قبل.
كلا بل كنت أرى الموضع عن بعد كلما قضت الضرورة المضى الى المدينة.
ثم سألهم بتلقائية: ولكن ماذا تصنعون أنتم هنا.
فانتهروه بغلاظة، وراحوا يلحّون عليه يستنطقونه، فرأى أن يحسم الأمر: أنا راهب.... عملى هو العبادة... فهلا أطلقتمونى الى حال سبيلى؟ إنى لا أرهب الموت بل أرحب به.
وبعد ان تشاوروا بينهم لم يجدوا مبررا لقتله، إذ ليس ثمة ضرر يمكن أن يلحقهم منه، ومع ذلك أبدى آخرون خشيتهم من اطلاق سراحه.. وهنا عرض عليهم فى بساطة أن يحيا بينهم يقوم بخدمتهم على أن يفردوا له مكانا خاصا يسكن فيه ليتعبد بقية الوقت، وبينما شعر أن ذلك سيجلب السعادة له إذ يخدمهم بحب وفرح، توجسوا هم خيفة منه إذ كيف يعرض أن يحيا بين جماعة من اللصوص الخطرين.. وفوجئ الجميع بأن رئيسهم يوافق على ذلك.
وفرح ماريو بذلك وأيقن أن الله وضعه فى طريقهم أو قل وضعهم فى طريقه.. ولم يكن يحتاج إلاّ الى القليل من الطعام والمسكن المنفرد.. لقد كان يشتهى أن يتحول الى التوحد، ولكن الوقت كان مبكرا ولن يسمحوا له فى ديره بشئ من هذا فى الوقت الحالى.
من بعد عدة أيام تخلوا عن حراسته بعد أن تأكد لهم أنه لا خطر منه، وبينما اجتهد خلال النهار فى خدمتهم والعناية بالمكان، سمعوه خلال الليل يصلى ويترنم طويلا، وتأكد لهم أيضا أنه أحب الحياة بينهم دون أن يفكر فى ماهية شخصياتهم أو عملهم، فلم يعرف شيئا عنهم أو عن طبيعة عملهم، وفى ذات ليلة عادوا ليجدوه قد غسل ملابسهم وسواها بالمكواه! وبينما اعتبروا هم ذلك جهدا ومحبة إضافية، كان هو يعد ذلك مقابل عمله فى الدير ومقابل طعامه هنا أيضا.
وقليلا قليلا ارتخت ملامحهم أمامه وخفت نبرات أصواتهم الناهرة المـُستخفة، وبدأوا فى اشراكه معهم فى طعامهم، غير أنه لم يقبل ذلك سوى مرات معدودة، بادره رئيسهم فى واحدة منهم بقوله.
لعلنا قد أخطأنا إليك باحتجازنا إياك.. وإن كان عليك أن تلتمس لنا بعض العذر.
كلا لم تخطأوا.
والآن يمكنك أن ترحل متى شئت.
واتجهت إليه أنظار الباقين ليرصدوا آثار الفرح على وجهه، معتذرين الواحد تلو الآخر، غير أنه فاجأ الجميع قائلا:
بل ابقى معكم إن لم يكن فى الأمر تثقيل عليكم.
فبادره الرئيس حينئذ: ولماذا تؤثر البقاء على الحرية، والضيق على السعة.
فأجاب: أما حريتى فتكمن فى بقائى هنا، وأما الضيق فقد خرجت من بيتى لأجله.
أين كان بيتك؟.. فى نابولى.
سادت فترة من الصمت أنهاها الراهب بسؤاله: متى أردت أن أصلى أما تتركوننى أفعل؟ وإذا احتجت الى الطعام أما تهبوننى شيئا منه.
أجل وقد حدث ذلك بالفعل وخصصنا لك مكانا منذ جئت من اسبوعين.
فقال متباسطا: تقصدون منذ قبضتم عليّ... ولكن لا بأس فى ذلك فإن حريتى ليست فى الفضاء والتجوال، بل فى البقاء حيث السكون والتخلى عن اهتمامات العالم... فقط أخرج مرة واحدة فى الشهر لأتناول من الأسرار المقدسة.
فسألوه ايضا: قلت أن لك ديرا وأخوة هناك من الرهبان فلماذا لا تعود إليهم.
فأجاب: ولكن لا فرق عندى الآن بين مكانين هم إخوتى وأنتم كذلك وأنا أحببتكم كما أحبهم.
فنظر بعضهم الى البعض الآخر فى تعجب، ثم قال رئيسهم وهو رجل قارب الخمسين من عمره وفى وجهه آثار جروح وفى عينيه مرارة وأسى، وكأنه يضع استراتيجية للحياة معا:تعلم أننا لصوص ... ولن نتخلى عن مهنتنا، ليس لأنه لا عمل لنا نقتنيه سواها فحسب، وإنما لأنه لنا فلسفة فيها أيضا لا وقت لشرحها الآن، كما أن البديل عنها يعنى الزج بنا فى غياهب السجون.. ومن هنا فلا شان لك بنا كما لا شأن لنا بما تفعله.. ولا حاجة لنا بوعظ أو تبكيت. ثم تنهد قائلا: أى قدر هذا الذى ساقك إلينا.
فأجاب: أما من جهتى فإن هذا مدعاة لسروى.
فرد الرئيس: آمل من جهتنا أن يصبح الأمر كذلك.
سارت حياة "الأب ماريو" فى هدوء متمتعا بهذه الحياة العجيبة، فرحا بخدمة أؤلئك القوم، سعيد بتنظيف المكان وإعداد الطعام، غير مبال بما يخططن له وما يناقشونه، فلقد أصبحوا يناقشون خططهم دون حذر أو خشية من أن يسمع، كما صادف هو أثناء إقامته بينهم الكثير من الصناديق المغلقة وحقائب الأموال. غير أن كل ذلك لم يكن يعنيه فى شئ.
وذات يوم بعد العشاء تباسط الرجال مع الراهب الشاب قائلين: لماذا تركت أسرتك وذهبت لتحيا فى ذلك الدير الذى تحدثت عنه.
فقال: أتسألون على سبيل المزاح أم أنكم جادين.
كلا فقد أحببناك كثيرا وآنسنا لك.
قال: كان أبى يعمل فى هيئة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بينما عملت أمى ممرضة فى الهيئة ذاتها، نعمت بطفولة سعيدة أنا وشقيقى وشقيقتى، وقد اجتهدت أمى كثيرا فى أن ننشأ صالحين. قرأت لنا كثيرا فى الكتاب المقدس وروت لنا العديد من قصص القديسين وقدامى الرهبان لا سيما آباء مصر والذين كانت تضعهم وسط هالة من التوقير والفخر... فتمنيت بخيالى الطفولى أن أصبح واحدا من هؤلاء الذين سمعت قصصهم منها... ولكننى شيئا فشيئا وعندما صرت شابا وجدت نفسي أحلم بالأمنية ذاتها وإنما بشكل مختلف.
كيف؟ سأل أحدهم باهتمام.
من بين أهدافنا فى الحياة أن نستعد لحياتنا الأبدية، سكنى البشر مع الله فى نهاية الأمر حيث ملكوته الأبدى. أما الراهب فهو الشخص الذى يستبق تلك الحياة، بمعنى أنه اختار أن يبدأها هنا، من خلال تخليه عن ملاذ العالم وأموره الزائلة من جهة، ومن جهة أخرى يحيا فى خلوة مع الله من خلال الصلاة والتسبيح والتأمل
ولما كل ذلك، وما المانع فى أن يجمع بين الأمرين.
حقا يقول المسيح ليس الجميع يقبلون هذا الكلام.
وهنا نظر أحدهم الى الآخر فى تعجب ثم ما لبثوا أن تحدثوا فى شئونهم وهكذا مرت الليلة.
وذات يوم وبعد ان اتممت صلواتى وتسابيحى، خرجت لأجد القوم وكأنهم كانوا يصغون لما كان يتلوه، فبادرهم إن كانوا يحتاجون الى شئ فأجابوا بالنفى وهم ينظرون إليّ فى عجب، ثم مالبثوا أن أنصرفوا كل الى شأنه بينما ظل رئيسهم قابعا فى مكانه ممسكا برزمة من الاوراق المالية... قال: أتريد بعضا من هذا.
ويرد الراهب: وما عسانى أن أفعل به.
ربما رغبت فى شراء شئ لا يتوفر هنا.
كلا أشكرك فلست فى احتياج الى شئ من هذا.
وبعد تردد سألنى بنغمة فيها بعض المرارة: تنظر إليّ بالطبع كرئيس عصابة... مجرم ولص خطير.
لم أفكر بهذا.. لأنى أرى نفسي خاطئ شرير.
فقهقه كثيرا وسألنى عن أي شر وأية خطيئة أتحدث، فقلت إننى ما أزال أخطئ بفكرى، كما أن حواسي ليست نقية كما يجب أن تكون، فتساءل وكأنه يحدث نفسه: أو تحسب هذه شرورا؟ فما عساك أن تقول عن الأهوال التى اقترفتها، ورصاصاتى التى اخترقت عشرات الاجساد... والخزائن التى اقتحمت والشهية التى لا تكف تجاه الدم والانتقام.
فأجاب الراهب: ولما كل ذلك وممن تنتقم... ولكننى على أية حال لم أرك مرة واحدة شريرا فى مثل تلك الأوضاع، بل أشعر بقوة إنك شخص طيب وأن هناك سرا ما تخفيه بين جنباتك.
هذا حق ولكنه ليس كل شئ.. فقد بدأت أعى الحياة فى غياب عنصر هام، ولما لاحقت أمى بالأسئلة عن أبى علمت أنه مات فى أحد أقسام الشرطة نتيجة سوء المعاملة على ذنب اتضح لاحقا أنه لم يقترفه... قال أنه كره كل شرطى وكل رجل أمن منذ عرف ذلك وقرر الانتقام لأبيه... بدأت فى سرقة اللقيمات القليلة لسد رمقى.. بسبب كوننا معدمين بعد وفاة أبى العائل الوحيد.. وبعدها ماتت أمى حزنا عليه... ثم بدات الجريمة معى بين حفنة من الأقران بسرقة أشياء تافهة لا قيمة لها ولا استخدام.. والآن بعد مرور أربعين عاما أجد نفسي وقد فقدت التمييز بين ما هو شر وما هو خير، ولم تبقى لدى شفقة تجاه أى إنسان.. إلى أن ساقك الله إلينا، منذ ذلك اليوم فقط عرفت نوعا من البشر جدير بالتقدير، لقد أسرتنى تلك السكينة التى تلف حياتك وهذا الحب الصادق... لماذا لم تغادرنا حين سمحنا لك بذلك.. سؤال لا جواب له سوى أنه مازال هناك أناس أبرار... من يومها فقط لا حظت أن نوعا من الرحمة بدأ فى إيجاد مكان له بيننا.
وبينما هو يتكلم توقف فجأه وأرهف السمع، وإذا به ينتفض من مكانه فيما بدا لى أنه نذير خطر، وأصدر أوامره بصوته الجهورى فاجتمع الرجال لتدب حركة سريعة بين جنبات المكان، وفى ثوان معدودة حُملت أشياء وتُركت أخرى. ثم بدأ الرجال فى التوارى.
ولما طلب منى أن اتبعهم رفضت مطمئنا إياه إنى سأتدبر أمرى... وهنا لاحت له فكرة، إذ طلب منى أن أسلك بشكل طبيعى وكأن المكان هو مغارتى ومعبدى.
وبقيت وحدى فى غرفتى، فما أن هدأت قليلا حتى سمعت جلبة وضوضاء، فيما بدا لى أنه مباغته من رجال الشرطة، ولم أخف أو أقلق، وعجّ المكان برجال الشرطة وسرت حركة تفتيش، وكان من الطبيعى أن يتفقدوا المكان- أقصد مكانى- فطرقوا الباب بقسوة آمرين بفتحه وإلا اضطروا لكسره. فما أن فعلت ورأونى أمامهم حتى عقدت الدهشة ألسنتهم.. إذ لم يتوقعوا أن يروا راهبا فى مغارة لصوص، فبادرونى باستنكار: ماذا تفعل هنا.
إنى راهب كما ترون وهذه قلايتى.
من معك.
لا يوجد رهبان سواى هنا.
لم نقصد رهبانا، بل لصوصا نتعقبهم، عصابة من المافيا أفما رأيت أحدا منهم.
نعم أرى بين الآن والآخر بعض الرجال ولكن لا شأن لى بهم وهم كذلك.
وبدا أنهم لم يصدقونى فى بداية الأمر.. ولكنهم تركونى على أية حال، إذ لم تكن هناك ثمة تهمة حقيقية يمكن توجيهها إلة، واكتفوا بأن نبهونى إلى أن الذين يقتفون أثارهم، هم من الخطرين ومن ثم علىّ اتخاذ الحيطة والحذر، فشكرتهم وهكذا تركونى بعد أن وهبونى بعضا من الطعام والشراب.
بعد مرور عدة أيام عاد اللصوص وهم يوجهون إلىّ عبارات الشكر والامتنان، غير أنهم أبلغونى بأنهم مضطرون الى ترك المكان. وقال لى كبيرهم: سعدنا بك وتمتعنا بإنسان ملائكى أو ملاك فى هيئة إنسان.
فقلت صادقا: بل سعدت أنا بكم، فليس بينكم شرير أو مجرم حقيقى، وإنما أناسا يقترفون الشر والاجرام.
وما الفرق؟؟ فقلت وأنا أجتهد ألا يتخذ كلامى نبرة وعظية: لستم أشرارا خطرين بطبيعتكم... ولكن الشر دخيل عليكم.. لم يولد أيّ منكم وفى يده سلاح.. ومن يدرى فقد تتخلون يوما عن طرقكم هذه وتركون الركب بل وتسبقون كثيرين، إن العبرة بالنهاية والسيد المسيح أشار الى مثل ذلك بقوله" أولون يكونون آخرين وآخرون أولين".
وهكذا افترقنا كأفضل أصدقاء وزالت آثارهم تماما من ذلك الكهف فتحول الى مكان عبادة.
الى أن جاء يوم بعد مرور سنتين كاملتين، فإذا بشابين يطرقان بابى ولم أتعرف عليهما فى البداية، حتى بادرانى باسميهما فإذا بهما ضمن الأفراد الذين كنت أعيش بينهم، وعرفت أنهما سلما نفسيهما للعدالة ثم أفرج عنهم إذ لم تكن موجهة إليهم تهما خطيرة ولا سيما أنهما كانا كرهينتين لدى تلك العصابة، وسألتهما عن البقية فعلمت أنهم كفوا جميعا عن تلك الأنشطة المؤذية وأفرج عن البعض بينما أصدرت بعض الأحكام بحق الباقين، ولكنهم راضين ويشعرون براحة.
فقلت لهم: جئتما بالطبع تزورانى وتطمئنان علىّ.. وأنا ممتن لذلك كثيرا.
ففاجئانى قائلين: كلا بل جئنا لنبقى معك نحيا حياتك.
ففرحت كثيرا وشعرت وكأنهم أولادى الذين ولدتهم فى قيودى، ولكننى نبهتهم عن صعوبة الطريق النسكى وحروبه لئلا يكون قرارهما مجرد انفعال ... غير أنهم كانا قد فكرا جيدا واتخذا هذا القرار منذ كانا فى ذلك الكهف، وقالا لى:
لم نكن بحاجة الى وعظ أو تبكيت بل كانت حياتك بيننا هى الحافز على الولوج فى ذات الطريق، ومع إننا قد لمحنا فى يديك كتبا عن أنطونيوس المصرى واسحق الانطاكى، إلا أننا لم نكن برغبة أو بحاجة الى قرائتها.. لقد كنت شفافا فأبصرنا المسيح من خلالك.
فهمست بصمت: المجد لك يا رب.
وعاش هذين الأخوين الجديدين فى جهاد شديد وفى نيتهما تعويض ما ضاع من عمرهما فى دروب الشر والحماقات، إذ ضيقا على نفسيهما فى الطعام والشراب، ولم يبرحا مكانهما إلا فى القليل النادر... وكان الراهب الشاب ماريو ينظر فى تعجب كيف بلغا الى هذه المرتبة فى وقت قصير، حتى كمل فيهما قول القديس يوحنا الدرجى: "لقد طوبت الذين خطأوا ثم تابوا أكثر من الذين لم يخطأوا ولم يتوبوا".
عقب الصلاة الصباحية، غادر الراهب الشاب الدير متوجها الى المدينة فى بعض شئون الدير، لم يحمل معه سوى إنجيله ثبته فى المنطقة الجلدية التى تشد حقويه، ثم السترة الجلدية واضعا إياها على كتفه وهى التى كانت تسمى فى الطقس الرهبانى عندنا فى مصر "بالجلد" حيث كان الطقس فى ذلك الوقت من العام قارس البرودة.
وكان ماريو يعرف الطريق الذى سيتخذه للوصول الى المدينة سيرا على الأقدام، وكانت الثلوج ماتزال متكدسة فوق الطريق بشكلها القطنى الرائع، إذ لم تكن أشعة الشمس الخافتة قد استطاعت بعد أن تذيبها. وهكذا راح ينقل قدما بعد أخرى وهما تغوصان فى الأرض. ومرت بذاكرته تلك الأيام البعيدة حيث كان يعشق رياضة التزلج على الجليد وتسلق الجبال أحيانا، وفى حين التحق أخوه بإحدى هيئات الإغاثة، آثر هو الانضمام الى هذه الأخوية الرهبانية فى الجبال القريبة من "جنوا" بإيطاليا.
وبينما كانت تستهويه فكرة الانعزال الكلى متأثرا بسير القديسين أمثال ساروفيم ساروفيكى والقديس بائيسيوس الروسى وغيرهما ممن أثروا الاعتزال فى الكهوف، كان رئيس الدير يستمهله فى ذلك مشفقا عليه من وعورة الطريق وقلة خبرته، غير أنه ما فتئ أن يحاول مرة بعد أخرى بالرغم من أنه رُوّع مما قرأه عن الجنود الروس إبان فترة الشيوعية وكيف ضربوا مغائر المتوحدين بالنابالم، وقبضوا على أخرين معذبين إياهم.
الآن وبعد ان قضى فى الرهبنة بين هذه الجماعة التى تضم أربعة عشر راهبا، مدة أربع سنوات وبضعة اشهر، يئن مشتاقا الى حياة "لا نظامية" على حد تعبيره، غير عابئ بما سيحتاجه من طعام وماء. ولكنها فى النهاية كانت مجرد أفكار تراوده فقط بين الحين والحين.
كان ماريو قد قطع نصف الطريق من الدير الى المدينة، فرأى أن يستريح لبعض الوقت وجاءت جلسته على بعد من فجوة فى الجبل أشبه ماتكون بكهف أو مغارة، كان يراها خلال تلك المهمات التى كلفه الدير بها من قبل، وكم تمنى من قلبه أن تتاح له الفرصة ليحيا فى كهف مثل ذلك متى سمح له القائمون على الدير، ومع كل ذلك فقد كان يرى فى الطاعة بركة وثمرا أكثر من ذلك الذى يأمله فى الوحدة.
وشعر بالجوع وفيما هو يتناول بعض الفاكهة التى حصل عليها من المتزلجين العائدين الى ديارهم شعر بالرغبة فى الاسترخاء وسرعان ما سرى الخدر فى جسده فنام، وما هى إلا دقائق حتى استيقظ على صوت أجش آمر، فانتبه وإذا هو أمام بناء إنسانى ضخم قاسى الملامح غريب الثياب، صاح فيه ليرفع يديه لأعلى. وتردد من المفاجأه، ولم يدر ماذا يفعل وعاد الصوت ليهدر مثل الرعد.
قم وارفع يديك قبل ان احطم عظامك.
ففعل وهو فى ذهول، فتلقى أسئلة سريعة مقتضبة عن اسمه وهويته وسبب مجيئه الى المكان، ولكنه ما كاد يجيب حتى تجمع حوله عدد من الرجال البولونيون ذوى الجثث الضخمة والكروش المنتفخة والشوارب المفتولة وملامح تتماشى مع هذه البانوراما. وأدرك " ماريو" على الفور أنه واقع بين ايدى إحدى عصابات المافيا، ولم يكن قد رآهم حتى ذلك الوقت إلا من خلال الصور والأفلام والقصص المتواترة عنهم، وكان أحد أقربائه قد قُتل منذ سنوات على أيدى إحدى عصاباتهم.
لقد كانوا يجلسون عند مدخل الكهف من الداخل يرقبونه ظانين أنه إنما قد جاء ليراقبهم ويتجسس عليهم فبادروا بالقبض عليه، ولم تعفه ملامحه الطيبه ولا ثيابه الرهبانية، إذ كانوا يدركون أن رجال البوليس يتنكرون فى ألف شكل وشكل. وفى ثوان معدودة قاموا بتقييد يديه ثم راحوا يدفعونه أمامهم دفعا بعد أن فتشوه جيدا، وحتى عندما وجدوا إنجيله معلقا فى منطقته لم يصدقوه بل اتفقوا على الظن بأنه مدسوس عليهم. وفى داخل الكهف كان هناك شخص- بدا من حديثهم معه أنه رئيسهم- كان فى الانتظار ليستجوبه بنفسه، وهو الذى طلب اليهم حلّه من قيوده.
كان الكهف على عكس ما كان يتوقع، متسعا ومجهزا بكافة أسباب الراحة، أشبه ما يكون بدور أرضى كامل، أما هو فشّتان بين ما كانه فى الصباح كملاك بين طغمة سمائية داخل الدير، ووقفته الآن أسيرا بين جماعة من اللصوص قد تجهز عليه بين لحظة وأخرى، وقال فى نفسه: "الجميع بشر: نحن وهم، وقد نكون نحن فى بعض جوانبنا لصوصا بينما يكونون هم فى بعض ميولهم وخصالهم رهبانا.... من يدرى"
ولم يخف على أية حال، فى حين أن نظراتهم إليه كانت توحى بأنهم سيأكلونه أكلا، وكان هناك سلام عجيب يسرى فى اوصاله، فالله الذى خرج من أجله: هو سيهتم به، وامر كبيرهم بأن يضعوه فى حجرة ريثما ينتهون من بعض شئونهم، غير أنهم تركوه حتى ساعة متأخرة من الليل ينهشه الجوع ويتنفس بمشقة، ويتحرك فى مكانه بصعوبة كبيرة... ومع ذلك فقد راح يصلى فى فرح.
لأجلك خرجت وأنت تعولنى... إنى أشفق على هؤلاء الذين يحيون فى ظلام أشتد قتامة من هذا الكهف.. إنهم لم يولدوا أشرارا.. وربما هناك من أساء إليهم... أنك أشد نوا عليهم منى فهم أولادك مثلى.. وأنت تحب الجميع وتسعى نحو خلاص الكل
عندما التأم شمل جماعتهم قرب الفجر، أحضروه من جديد وبدأ رئيسهم فى استجوابه.
من عـّرفك بهذا المكان.
لا أحد... لقد كنت أستريح فقط من وعثاء السفر الى المدينة.
ألم تأت الى هنا من قبل.
كلا بل كنت أرى الموضع عن بعد كلما قضت الضرورة المضى الى المدينة.
ثم سألهم بتلقائية: ولكن ماذا تصنعون أنتم هنا.
فانتهروه بغلاظة، وراحوا يلحّون عليه يستنطقونه، فرأى أن يحسم الأمر: أنا راهب.... عملى هو العبادة... فهلا أطلقتمونى الى حال سبيلى؟ إنى لا أرهب الموت بل أرحب به.
وبعد ان تشاوروا بينهم لم يجدوا مبررا لقتله، إذ ليس ثمة ضرر يمكن أن يلحقهم منه، ومع ذلك أبدى آخرون خشيتهم من اطلاق سراحه.. وهنا عرض عليهم فى بساطة أن يحيا بينهم يقوم بخدمتهم على أن يفردوا له مكانا خاصا يسكن فيه ليتعبد بقية الوقت، وبينما شعر أن ذلك سيجلب السعادة له إذ يخدمهم بحب وفرح، توجسوا هم خيفة منه إذ كيف يعرض أن يحيا بين جماعة من اللصوص الخطرين.. وفوجئ الجميع بأن رئيسهم يوافق على ذلك.
وفرح ماريو بذلك وأيقن أن الله وضعه فى طريقهم أو قل وضعهم فى طريقه.. ولم يكن يحتاج إلاّ الى القليل من الطعام والمسكن المنفرد.. لقد كان يشتهى أن يتحول الى التوحد، ولكن الوقت كان مبكرا ولن يسمحوا له فى ديره بشئ من هذا فى الوقت الحالى.
من بعد عدة أيام تخلوا عن حراسته بعد أن تأكد لهم أنه لا خطر منه، وبينما اجتهد خلال النهار فى خدمتهم والعناية بالمكان، سمعوه خلال الليل يصلى ويترنم طويلا، وتأكد لهم أيضا أنه أحب الحياة بينهم دون أن يفكر فى ماهية شخصياتهم أو عملهم، فلم يعرف شيئا عنهم أو عن طبيعة عملهم، وفى ذات ليلة عادوا ليجدوه قد غسل ملابسهم وسواها بالمكواه! وبينما اعتبروا هم ذلك جهدا ومحبة إضافية، كان هو يعد ذلك مقابل عمله فى الدير ومقابل طعامه هنا أيضا.
وقليلا قليلا ارتخت ملامحهم أمامه وخفت نبرات أصواتهم الناهرة المـُستخفة، وبدأوا فى اشراكه معهم فى طعامهم، غير أنه لم يقبل ذلك سوى مرات معدودة، بادره رئيسهم فى واحدة منهم بقوله.
لعلنا قد أخطأنا إليك باحتجازنا إياك.. وإن كان عليك أن تلتمس لنا بعض العذر.
كلا لم تخطأوا.
والآن يمكنك أن ترحل متى شئت.
واتجهت إليه أنظار الباقين ليرصدوا آثار الفرح على وجهه، معتذرين الواحد تلو الآخر، غير أنه فاجأ الجميع قائلا:
بل ابقى معكم إن لم يكن فى الأمر تثقيل عليكم.
فبادره الرئيس حينئذ: ولماذا تؤثر البقاء على الحرية، والضيق على السعة.
فأجاب: أما حريتى فتكمن فى بقائى هنا، وأما الضيق فقد خرجت من بيتى لأجله.
أين كان بيتك؟.. فى نابولى.
سادت فترة من الصمت أنهاها الراهب بسؤاله: متى أردت أن أصلى أما تتركوننى أفعل؟ وإذا احتجت الى الطعام أما تهبوننى شيئا منه.
أجل وقد حدث ذلك بالفعل وخصصنا لك مكانا منذ جئت من اسبوعين.
فقال متباسطا: تقصدون منذ قبضتم عليّ... ولكن لا بأس فى ذلك فإن حريتى ليست فى الفضاء والتجوال، بل فى البقاء حيث السكون والتخلى عن اهتمامات العالم... فقط أخرج مرة واحدة فى الشهر لأتناول من الأسرار المقدسة.
فسألوه ايضا: قلت أن لك ديرا وأخوة هناك من الرهبان فلماذا لا تعود إليهم.
فأجاب: ولكن لا فرق عندى الآن بين مكانين هم إخوتى وأنتم كذلك وأنا أحببتكم كما أحبهم.
فنظر بعضهم الى البعض الآخر فى تعجب، ثم قال رئيسهم وهو رجل قارب الخمسين من عمره وفى وجهه آثار جروح وفى عينيه مرارة وأسى، وكأنه يضع استراتيجية للحياة معا:تعلم أننا لصوص ... ولن نتخلى عن مهنتنا، ليس لأنه لا عمل لنا نقتنيه سواها فحسب، وإنما لأنه لنا فلسفة فيها أيضا لا وقت لشرحها الآن، كما أن البديل عنها يعنى الزج بنا فى غياهب السجون.. ومن هنا فلا شان لك بنا كما لا شأن لنا بما تفعله.. ولا حاجة لنا بوعظ أو تبكيت. ثم تنهد قائلا: أى قدر هذا الذى ساقك إلينا.
فأجاب: أما من جهتى فإن هذا مدعاة لسروى.
فرد الرئيس: آمل من جهتنا أن يصبح الأمر كذلك.
سارت حياة "الأب ماريو" فى هدوء متمتعا بهذه الحياة العجيبة، فرحا بخدمة أؤلئك القوم، سعيد بتنظيف المكان وإعداد الطعام، غير مبال بما يخططن له وما يناقشونه، فلقد أصبحوا يناقشون خططهم دون حذر أو خشية من أن يسمع، كما صادف هو أثناء إقامته بينهم الكثير من الصناديق المغلقة وحقائب الأموال. غير أن كل ذلك لم يكن يعنيه فى شئ.
وذات يوم بعد العشاء تباسط الرجال مع الراهب الشاب قائلين: لماذا تركت أسرتك وذهبت لتحيا فى ذلك الدير الذى تحدثت عنه.
فقال: أتسألون على سبيل المزاح أم أنكم جادين.
كلا فقد أحببناك كثيرا وآنسنا لك.
قال: كان أبى يعمل فى هيئة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بينما عملت أمى ممرضة فى الهيئة ذاتها، نعمت بطفولة سعيدة أنا وشقيقى وشقيقتى، وقد اجتهدت أمى كثيرا فى أن ننشأ صالحين. قرأت لنا كثيرا فى الكتاب المقدس وروت لنا العديد من قصص القديسين وقدامى الرهبان لا سيما آباء مصر والذين كانت تضعهم وسط هالة من التوقير والفخر... فتمنيت بخيالى الطفولى أن أصبح واحدا من هؤلاء الذين سمعت قصصهم منها... ولكننى شيئا فشيئا وعندما صرت شابا وجدت نفسي أحلم بالأمنية ذاتها وإنما بشكل مختلف.
كيف؟ سأل أحدهم باهتمام.
من بين أهدافنا فى الحياة أن نستعد لحياتنا الأبدية، سكنى البشر مع الله فى نهاية الأمر حيث ملكوته الأبدى. أما الراهب فهو الشخص الذى يستبق تلك الحياة، بمعنى أنه اختار أن يبدأها هنا، من خلال تخليه عن ملاذ العالم وأموره الزائلة من جهة، ومن جهة أخرى يحيا فى خلوة مع الله من خلال الصلاة والتسبيح والتأمل
ولما كل ذلك، وما المانع فى أن يجمع بين الأمرين.
حقا يقول المسيح ليس الجميع يقبلون هذا الكلام.
وهنا نظر أحدهم الى الآخر فى تعجب ثم ما لبثوا أن تحدثوا فى شئونهم وهكذا مرت الليلة.
وذات يوم وبعد ان اتممت صلواتى وتسابيحى، خرجت لأجد القوم وكأنهم كانوا يصغون لما كان يتلوه، فبادرهم إن كانوا يحتاجون الى شئ فأجابوا بالنفى وهم ينظرون إليّ فى عجب، ثم مالبثوا أن أنصرفوا كل الى شأنه بينما ظل رئيسهم قابعا فى مكانه ممسكا برزمة من الاوراق المالية... قال: أتريد بعضا من هذا.
ويرد الراهب: وما عسانى أن أفعل به.
ربما رغبت فى شراء شئ لا يتوفر هنا.
كلا أشكرك فلست فى احتياج الى شئ من هذا.
وبعد تردد سألنى بنغمة فيها بعض المرارة: تنظر إليّ بالطبع كرئيس عصابة... مجرم ولص خطير.
لم أفكر بهذا.. لأنى أرى نفسي خاطئ شرير.
فقهقه كثيرا وسألنى عن أي شر وأية خطيئة أتحدث، فقلت إننى ما أزال أخطئ بفكرى، كما أن حواسي ليست نقية كما يجب أن تكون، فتساءل وكأنه يحدث نفسه: أو تحسب هذه شرورا؟ فما عساك أن تقول عن الأهوال التى اقترفتها، ورصاصاتى التى اخترقت عشرات الاجساد... والخزائن التى اقتحمت والشهية التى لا تكف تجاه الدم والانتقام.
فأجاب الراهب: ولما كل ذلك وممن تنتقم... ولكننى على أية حال لم أرك مرة واحدة شريرا فى مثل تلك الأوضاع، بل أشعر بقوة إنك شخص طيب وأن هناك سرا ما تخفيه بين جنباتك.
هذا حق ولكنه ليس كل شئ.. فقد بدأت أعى الحياة فى غياب عنصر هام، ولما لاحقت أمى بالأسئلة عن أبى علمت أنه مات فى أحد أقسام الشرطة نتيجة سوء المعاملة على ذنب اتضح لاحقا أنه لم يقترفه... قال أنه كره كل شرطى وكل رجل أمن منذ عرف ذلك وقرر الانتقام لأبيه... بدأت فى سرقة اللقيمات القليلة لسد رمقى.. بسبب كوننا معدمين بعد وفاة أبى العائل الوحيد.. وبعدها ماتت أمى حزنا عليه... ثم بدات الجريمة معى بين حفنة من الأقران بسرقة أشياء تافهة لا قيمة لها ولا استخدام.. والآن بعد مرور أربعين عاما أجد نفسي وقد فقدت التمييز بين ما هو شر وما هو خير، ولم تبقى لدى شفقة تجاه أى إنسان.. إلى أن ساقك الله إلينا، منذ ذلك اليوم فقط عرفت نوعا من البشر جدير بالتقدير، لقد أسرتنى تلك السكينة التى تلف حياتك وهذا الحب الصادق... لماذا لم تغادرنا حين سمحنا لك بذلك.. سؤال لا جواب له سوى أنه مازال هناك أناس أبرار... من يومها فقط لا حظت أن نوعا من الرحمة بدأ فى إيجاد مكان له بيننا.
وبينما هو يتكلم توقف فجأه وأرهف السمع، وإذا به ينتفض من مكانه فيما بدا لى أنه نذير خطر، وأصدر أوامره بصوته الجهورى فاجتمع الرجال لتدب حركة سريعة بين جنبات المكان، وفى ثوان معدودة حُملت أشياء وتُركت أخرى. ثم بدأ الرجال فى التوارى.
ولما طلب منى أن اتبعهم رفضت مطمئنا إياه إنى سأتدبر أمرى... وهنا لاحت له فكرة، إذ طلب منى أن أسلك بشكل طبيعى وكأن المكان هو مغارتى ومعبدى.
وبقيت وحدى فى غرفتى، فما أن هدأت قليلا حتى سمعت جلبة وضوضاء، فيما بدا لى أنه مباغته من رجال الشرطة، ولم أخف أو أقلق، وعجّ المكان برجال الشرطة وسرت حركة تفتيش، وكان من الطبيعى أن يتفقدوا المكان- أقصد مكانى- فطرقوا الباب بقسوة آمرين بفتحه وإلا اضطروا لكسره. فما أن فعلت ورأونى أمامهم حتى عقدت الدهشة ألسنتهم.. إذ لم يتوقعوا أن يروا راهبا فى مغارة لصوص، فبادرونى باستنكار: ماذا تفعل هنا.
إنى راهب كما ترون وهذه قلايتى.
من معك.
لا يوجد رهبان سواى هنا.
لم نقصد رهبانا، بل لصوصا نتعقبهم، عصابة من المافيا أفما رأيت أحدا منهم.
نعم أرى بين الآن والآخر بعض الرجال ولكن لا شأن لى بهم وهم كذلك.
وبدا أنهم لم يصدقونى فى بداية الأمر.. ولكنهم تركونى على أية حال، إذ لم تكن هناك ثمة تهمة حقيقية يمكن توجيهها إلة، واكتفوا بأن نبهونى إلى أن الذين يقتفون أثارهم، هم من الخطرين ومن ثم علىّ اتخاذ الحيطة والحذر، فشكرتهم وهكذا تركونى بعد أن وهبونى بعضا من الطعام والشراب.
بعد مرور عدة أيام عاد اللصوص وهم يوجهون إلىّ عبارات الشكر والامتنان، غير أنهم أبلغونى بأنهم مضطرون الى ترك المكان. وقال لى كبيرهم: سعدنا بك وتمتعنا بإنسان ملائكى أو ملاك فى هيئة إنسان.
فقلت صادقا: بل سعدت أنا بكم، فليس بينكم شرير أو مجرم حقيقى، وإنما أناسا يقترفون الشر والاجرام.
وما الفرق؟؟ فقلت وأنا أجتهد ألا يتخذ كلامى نبرة وعظية: لستم أشرارا خطرين بطبيعتكم... ولكن الشر دخيل عليكم.. لم يولد أيّ منكم وفى يده سلاح.. ومن يدرى فقد تتخلون يوما عن طرقكم هذه وتركون الركب بل وتسبقون كثيرين، إن العبرة بالنهاية والسيد المسيح أشار الى مثل ذلك بقوله" أولون يكونون آخرين وآخرون أولين".
وهكذا افترقنا كأفضل أصدقاء وزالت آثارهم تماما من ذلك الكهف فتحول الى مكان عبادة.
الى أن جاء يوم بعد مرور سنتين كاملتين، فإذا بشابين يطرقان بابى ولم أتعرف عليهما فى البداية، حتى بادرانى باسميهما فإذا بهما ضمن الأفراد الذين كنت أعيش بينهم، وعرفت أنهما سلما نفسيهما للعدالة ثم أفرج عنهم إذ لم تكن موجهة إليهم تهما خطيرة ولا سيما أنهما كانا كرهينتين لدى تلك العصابة، وسألتهما عن البقية فعلمت أنهم كفوا جميعا عن تلك الأنشطة المؤذية وأفرج عن البعض بينما أصدرت بعض الأحكام بحق الباقين، ولكنهم راضين ويشعرون براحة.
فقلت لهم: جئتما بالطبع تزورانى وتطمئنان علىّ.. وأنا ممتن لذلك كثيرا.
ففاجئانى قائلين: كلا بل جئنا لنبقى معك نحيا حياتك.
ففرحت كثيرا وشعرت وكأنهم أولادى الذين ولدتهم فى قيودى، ولكننى نبهتهم عن صعوبة الطريق النسكى وحروبه لئلا يكون قرارهما مجرد انفعال ... غير أنهم كانا قد فكرا جيدا واتخذا هذا القرار منذ كانا فى ذلك الكهف، وقالا لى:
لم نكن بحاجة الى وعظ أو تبكيت بل كانت حياتك بيننا هى الحافز على الولوج فى ذات الطريق، ومع إننا قد لمحنا فى يديك كتبا عن أنطونيوس المصرى واسحق الانطاكى، إلا أننا لم نكن برغبة أو بحاجة الى قرائتها.. لقد كنت شفافا فأبصرنا المسيح من خلالك.
فهمست بصمت: المجد لك يا رب.
وعاش هذين الأخوين الجديدين فى جهاد شديد وفى نيتهما تعويض ما ضاع من عمرهما فى دروب الشر والحماقات، إذ ضيقا على نفسيهما فى الطعام والشراب، ولم يبرحا مكانهما إلا فى القليل النادر... وكان الراهب الشاب ماريو ينظر فى تعجب كيف بلغا الى هذه المرتبة فى وقت قصير، حتى كمل فيهما قول القديس يوحنا الدرجى: "لقد طوبت الذين خطأوا ثم تابوا أكثر من الذين لم يخطأوا ولم يتوبوا".