المرأة الشونمية
وفي ذات يوم عبر اليشع إلى شونم، وكانت هناك امرأة عظيمة...
مقدمة
تختلف مقاييس الناس اختلافا
بينا كبيراً حول تحديد من هو العظيم في هذه الأرض!! ولاشك أن الكثيرين
جداً يحكمون على العظمة بالنظر إلى الظاهر في الإنسان، فالإنسان عظيم على
قدر المظهر الذي يعيش به بين الناس، وهذه العظمة، ليست في الواقع إلا عظمة
القشور، وقد رفضها المسيح وهو يتحدث عن عظمة المعمدان قائلاً: «لكن ماذا
خرجتم إلى البرية لتنظروا إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة هوذا الذين يلبسون
الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك.... الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين
من النساء أعظم من يوحنا المعمدان...»، ولو كانت القشور هي العظمة
الحقيقية، لخرج لا الرسول بولس أو التلاميذ فحسب، بل لخرج المسيح نفسه
الذي لم يكن له أين يسند رأسه.. وقد يقيس آخرون العظمة، على قدر ما يملك
الإنسان من نفوذ أو سيطرة أو استبداد أو طغيان، ومن ثم جعلوا في القمة بين
العظماء، جبابرة الحروب أمثال الاسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم، أو من
وصفهم السيد بالقول: «إن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وأن عظماءهم
يتسلطون عليهم».. وقد يرى آخرون العظمة في المفكرين والفلاسفة ممن يرفعون
مصابيح النور ومشاعل المعرفة هداية للحائرين في الطريق الإنساني المظلم،
ومن ثم عدوا في مقدمة العظماء سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة
القدامى والمحدثين، ووجد من قاس العظمة عند المخترعين والمكتشفين والعلماء
من رواد الطريق إلى الحضارة والمدنية والرفاهية بين الناس، لكنني أعتقد أن
العظمة الحقيقية تبدأ من عظمة الإنسان على نفسه، وانتصاره على ما في
أغوارها من باطل، والعثور على معنى وجوده ورسالته في الأرض، والخدمة
والتضحية والبذل، وقد كانت الشونمية بهذا المعنى واحدة من العظيمات
اللواتي سطرت عظمتها في وحي الكتاب بأحرف بارزة جليلة، وقد يكون من الخير
والحق أن نتأمل قصتها العظيمة فيما يلي من صور:
من هي الشونمية
لم يذكر الوحي لنا اسم
المرأة، ولا نعلم سوى أنها من قرية شونم، والتي كانت تقع على بعد خمسين
ميلا إلى الشمال من أورشليم، وإلى سبعة أميال إلى الجنوب من المدينة التي
عرفت فيما بعد بالناصرة والتي عاش فيها المسيح مخلص العالم، ومع أننا لا
نعرف الكثير عن حياة هذه المرأة، إلا أننا نعلم أنها كانت من الطبقة
المتوسطة الغنية، وأن بيتها كان من البيوت الظاهرة في القرية، بل وربما
أغناها وأيسرها، وأن لقمة العيش كانت سهلة وميسورة، وأنها كانت تملك
أرضًَا، تدر عليها الوفير من العيش والحياة، وأنها يوم اضطرت إلى الهجرة
لمجاعة طارئة رد الملك لها أرضها المغتصبة، والحياة كانت هادئة وطيبة
للمرأة، حتى أن أليشع عندما سألها عما اذا كان يعوزها شيء، ردت بأنها
ساكنة في وسط شعبها، لا تقلق أحدا، ولا أحد يتعرض لها بالإقلاق أو
المضايقات أو الترفع على من حولها من القرويين أو الريفيين كما يفعل بعض
الثراة أو الأغنياء من أهل الريف، بل يبدو أنها كانت امرأة وديعة مجبولة
على روح الوداعة والتواضع، وكانت المرأة لها أكثر من ذلك الكرم القروي
الطبيعي غير المتكلف، فهي لا تعطي فحسب، بل تسر بالعطاء والجود والكرم،
وعلى وجه الخصوص الضيوف العابرين في الطريق، والغرباء الذين يحتاجون إلى
معونة ومساعدة، على أن المرأة تميزت أيضًا بالتقوى العميقة الصادقة، فكل
حركاتها وسكناتها، وكل مشاعرها وعواطفها، وكل ما صدر عنها من أفعال أو
انفعالات كانت تكمن وراءه روح امرأة تقية عميقة التقوى، تخاف الله وتحبه،
وتقبل منه الآلام والآمال، بوداعة وتسليم ورضا وخشوع وسكينة وحب!! ولعل
هذه كلها هي التي أعطتها ذيوعًا وشهرة أكثر من زوجها، الذي أخذ مكانه في
الظل إلى جوار شخصيتها القوية العظيمة الواضحة!!..
الشونمية ومظاهر عظمتها
وإذا كانت الشونمية، توصف في
المعنى العام بالمرأة العظيمة إلا أن مظاهر عظمتها قد ظهرت على وجه الخصوص
في بعض المواقف الموثرة البطولية في عرض حياتها وسيرتها، ويمكن أن تراها
بوضوح فيما يلي:
عظمة التقوى رغم الحرمان
من السهل على الإنسان أن
يتصور التقوى تسير سيرها المطرد المستمر، مع نجاح الإنسان أو خيره، أو
سلامته، أو مدى ما يتمتع به من دسم أو وفرة، ومع أن المرأة الشونمية كان
لها الكثير، لتشكر الله عليه، وتغني بالحمد لجلاله، إلا أنها رغم ذلك كانت
محرومة من أغلى ما كانت تحن إليه المرأة اليهودية في ذلك الوقت، بل أن هذا
الحرمان كان يصور في كثير من الأوضاع والصور، كغضب الله أو قسوته أو شدته،
عندما تكون المرأة عاقرًا لا تنجب أو تلد، ولعلنا نذكر المذلة التي كانت
تفيض بها مشاعرها من هذا القبيل، ولا يمكن أن ننسى في هذا المجال سارة
ورفقة وراحيل وحنة وغيرهن من النساء، ألم تؤثر راحيل الموت على حياة العقم
وعدم الإنجاب، وألم تبك حنة في مرارتها القاسية في بيت الله لأنه لم يكن
لها ولد!! ولعل الشونمية التي ظلت سنوات كثيرة بلا ابن، قد بكت مرات بلا
عدد أو حصر وهي أمام الله في الصلاة، أو في عزلتها من الناس، أو ربما
أمامهم، وهي تنشد الولد أو تحن إليه، ولكنها مع هذا كله لم يعرف منها أو
عنها قط حياة التذمر أو التمرد أو الشكوى أمام الله والناس، لقد كانت في
حرمانها المرأة التقية الزكية الإحساس المفعمة بالتسليم والسكينة والرضا
لقضاء الله وأمره، كما كانت بعد مجيئة، ذات المرأة الممتلئة بكل عرفان
وشكر وحمد لرحمته وإحسانه وجوده، بل لعلها كانت تقول مع أيوب، عندما تتعرض
للإحساس بتجربة لتذمر «هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا فقط أزكي طريقي
قدامه...» أجل كانت المرأة في كل عقهما، وبكل عمقها، مظهرًا عظيمًا لتقوى
المحرومين من هذا أو ذاك أمام الله..
عظمة الخدمة دون انتظار الأجر
ولعل المظهر الثاني لعظمة هذه
المرأة كانت روح الخدمة التي تتملكها، دون أدنى تفكير في رد أو جزاء بشري،
لقد خدمت أليشع وتعبت في خدمته، على النحو الذي أثار الرجل وحرك مشاعره،
فناداها، يطلب إليها أن يرد بعض المعروف مقابل ما سبب لها من انزعاج
واهتمام ومتاعب، ولكن المرأة تجيب بأنها لا حاجة لها إلى شيء وهي ساكنة
آمنة في وسط شعبها، لقد أوغلت في خدمتها إلى أليشع حتى أنها بنت له في
بيتها علية يأوى إليها كلما جاء أو عبر الطريق، دون أن تنتظر جزاء أو
شكراً، سوى احساسها العظيم بلذة الخدمة نفسها اللذة التي لا يستطيع أن
يدركها سوى أولئك الذين خرجوا من نفوسهم إلى الآخرين، ومن الأثرة إلى
الإيثار، ومن محبة الذات إلى محبة الجميع، كل من يمد يده إلى المتعب
والغريب والضائع والمشرد والبائس والباكي وما أكثرهم في كل زمان ومكان على
ظهر هذه الأرض!!..
عظمة السلام رغم وقوع الكارثة
على أن المرأة تبدو في أروع
صور العظمة عندما يموت ولدها الوحيد، قرة عينها، وبهجة قلبها، والذي جاء
بعد ما ذكرنا من الحرمان القاسي لسنوات متعددة طويلة، والذي عاش سنوات بلغ
فيها مرتبة الصبي، التي تجعله يخرج من البيت ويذهب لأبيه في الحقل، أو
يجري هنا وهناك كما يجري سائر الأولاد اللاعبين الضاحكين مثله وفي سنه،
وقد جاءت الضربة مفاجئة وغير متوقعة إذ كانت ضربة شمس وهو عند أبيه في
الحقل، وكانت مسرعة وقاسية ومذهلة، فما أسرع ما يصل الصبي إلى أمه، حتى
يموت قرب الظهيرة في حجرها، وهنا يقف الإنسان أمام مشهد من أدق وأقسى
المشاهد التي يمكن أن يراها المرء في حياة الناس، كيف تواجه المرأة
الكارثة وتتصرف إزاءها! لقد تحولت في دقائق ولحظات إلى أعظم صورة يمكن أن
تتصورها من العظمة في مواجهة الفاجعة والآلام، ومع أن المرأة في العادة لا
تنصرف بمفردها في مثل هذه المواقف التي تهزم أصلب الأعواد وأشجع القلوب،
إلا أنها مع ذلك حرصت على ألا يعلم زوجها شيئًا عن الأمر، إذ قصدت أن تلوذ
برجل الله والذي لم يكن في بيتها بل كان في الكرمل على بعد عشرة أميال على
الأقل، وإذ يستفسر الزوج عن سر ذهابها تجيب بكلمة واحدة: سلام... وعندما
تقترب من النبي، ويفزع إذ يراها مسرعة إليه فيرسل جيجزي بسؤال واحد: أسلام
لك. أسلام لزوجك. أسلام للولد تجيب أيضًا بكلمة واحدة: سلام! وكيف يمكن أن
يكون هناك السلام للنفس التعسة الحزينة المرة المفجوعة بل للنفس التي راضت
حياتها على الصورة الأولى من غير ولد، وكان يمكن أن تستمر هكذا حتى استيقظ
فيها الأمل بمجيء الغلام الذي أضحى هو الحياة بل أهم من الحياة عندها؟ كيف
يمكن أن يكون السلام وقد كانت في قصتها الأولى كمن يسير قريبًا من الأرض
لا يهتز إذا سقط عليها، ولكنه سرعان ما يصعد إلى أعلى الأدوار ليسقط، ولا
يترضض فقط، بل ليتهشم تهشيمًا، ويضحي أشلاء تذروها الرياح، وكيف يمكن
للإنسان أن يصل إلى السلام عندما يعصره الألم، وينضح بالتعاسة والدموع!
هذا موقف من أندر المواقف وأقساها، ولو أن المرأة واجهته بما لم تواجهه
امرأة أخرى إذ تغلق على ولدها ولا تذرف دمعة، ولا يعلو صوتها بتشنج أو
نحيب، بل تذهب بصمت مليء بالمرارة إلى رجل الله، لكانت من أعظم النساء
اللواتي عرفن في مواجهة الصدمات بشجاعة وصلابة وصبر في هذه الأرض، لكن
المرأة ارتفعت فوق المرارة والآلام والتعاسة والأحزان التي لا توصف بشيء
أسمى وأعلى وأمجد!!... لقد كانت أشبه بالطائر المرتفع الذي يشق طريقه إلى
أعلى السموات مرتفعًا فوق الغيوم والسحب والأمطار ليواجه الشمس المشرقة
الرائعة العظيمة، لقد واجهت المرأة المحنة بإيمان عجيب، قل أن يكون له
نظير أو مثيل في حياة الناس، لقد آمنت أن الولد الذي جاء بمعجزة، سينهض من
الموت ويقوم أيضًا بمعجزة، وقد حول هذا الإيمان نارها الملتهبة سلاماً
وعذابها الذي لا يوصف هدوء وسكينة، لايمكن أن تكون من صنع الإنسان أو من
قدرة ذاتية عنده، بل من روح الله وشخصه المبارك الذي لا يترك المؤمن، بل
يجتاز معه الأتون المحمي سبعة أضعاف ويخرجه منه على نحو خارق من البهاء
والجمال والعظمة على مشهد من الجميع ويصورة تذهب مضرب المثل كلما ذكرها
الناس كواحدة من أقسى التجارب في حياة البشر على هذه الأرض!! وهل هناك
عظمة يمكن أن تداني هذه العظمة في مواجهة المحن والآلام.
الشونمية وجزاؤها المبارك
كانت الشونمية، وهي تأخذ
جزاءها من الله، أشبه بذلك القديس الذي تذكر القصة الخيالية أن الله طلب
منه أن يختار أية عطية سيمنحها له المولى مهما كانت غالية وعظيمة وكريمة
وأبي القديس وهو يقول الله: لقد أعطيتني ياسيدي فوق ما أطلب أو أحتاج،
وأنا أسير إحسانك وجودك، ولا يعوزني قط شيء من الخير، وأجابه الله: ولكني
أريد أن أعطيك أكثر فاطلب ما تشاء أو تريد!.. وقال الرجل: إذا كان ولابد
يا مولاي!! فاني أرجو أن تعطيني أن أفعل الخير دون أن أحس إني فعلته أو
قمت به!! وقال الله له: ليكن لك ذلك!.. وكان الرجل يسير فإذا وقع ظله على
مريض شفي وبريء دون أن يشعر!! ولعله من الملاحظ أن المرأة لم تطلب الولد
عندما سألها أليشع ولكن الولد جاء نتيجة ملاحظة جيحزي، إن البيت خال من
ابن! لقد قدمت المرأة خدمتها وترحيبها وعطاياها تحت إحساسها العميق، بأن
هذا ليس من واجبها فحسب بل هو امتيازها الأعظم أيضًا، ورأى الله أن المرأة
أقرضته وأعطته وهو لا يقبل أن يكون مديونًا لأحد، وهو إذ يعطي إنما يعطي
أضعافاً مضاعفة لا يمكن أن توازن بما يقبل أو يأخذ، ألم يقل السيد: «من
يقبل نبيًا باسم نبي فأجر نبي يأخذ ومن يقبل بارا باسم بار فأجر بار يأخذ
ومن سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم إنه
لا يضيع أجره».. وهل ضاع أجر المرأة، ألم تأخذ الولد، ولم تأخذه مرة واحدة
في الحياة. بل أخذته مرتين؟ وألم تأخذ خيرًا سابقًا ولاحقاً لما قدمت لرجل
الله من ضيافة أو كرم، عندما فاض عليها الله بالخيرات الكثيرة في بيتها،
وعندما حفظ الله لها أرضها طوال المجاعة التي استمرت سبع سنوات، واغتصب
الغاصبون حقلها، فلم يرد لها الملك الحقل عندما صرخت إليه فحسب، بل رد لها
أكثر من ذلك غلاته التي أخذت طوال فترة غيابها عن شعبها وبلادها، طوال
السبع السنوات من المجاعة القاسية.
أيتها الشونمية العظيمة! هل
يتعلم الناس، وهم يبحثون عن العظمة كيف تكون أصلا في العادي من الحياة في
السماحة والجمال والدعة والخدمة بينهم، قبل أن تكون في طلب الخوارق
والعجائب والمعجزات، والله على استعداد أن يعطي هذه وتلك، لمن يعيش ويحيا
كما عشت وحييت، وكنت بحق في الحالتين كما ذكر الوحي «وفي ذات يوم عبر
أليشع إلى شونم وكانت هناك امرأة عظيمة».
وفي ذات يوم عبر اليشع إلى شونم، وكانت هناك امرأة عظيمة...
مقدمة
تختلف مقاييس الناس اختلافا
بينا كبيراً حول تحديد من هو العظيم في هذه الأرض!! ولاشك أن الكثيرين
جداً يحكمون على العظمة بالنظر إلى الظاهر في الإنسان، فالإنسان عظيم على
قدر المظهر الذي يعيش به بين الناس، وهذه العظمة، ليست في الواقع إلا عظمة
القشور، وقد رفضها المسيح وهو يتحدث عن عظمة المعمدان قائلاً: «لكن ماذا
خرجتم إلى البرية لتنظروا إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة هوذا الذين يلبسون
الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك.... الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين
من النساء أعظم من يوحنا المعمدان...»، ولو كانت القشور هي العظمة
الحقيقية، لخرج لا الرسول بولس أو التلاميذ فحسب، بل لخرج المسيح نفسه
الذي لم يكن له أين يسند رأسه.. وقد يقيس آخرون العظمة، على قدر ما يملك
الإنسان من نفوذ أو سيطرة أو استبداد أو طغيان، ومن ثم جعلوا في القمة بين
العظماء، جبابرة الحروب أمثال الاسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم، أو من
وصفهم السيد بالقول: «إن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وأن عظماءهم
يتسلطون عليهم».. وقد يرى آخرون العظمة في المفكرين والفلاسفة ممن يرفعون
مصابيح النور ومشاعل المعرفة هداية للحائرين في الطريق الإنساني المظلم،
ومن ثم عدوا في مقدمة العظماء سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة
القدامى والمحدثين، ووجد من قاس العظمة عند المخترعين والمكتشفين والعلماء
من رواد الطريق إلى الحضارة والمدنية والرفاهية بين الناس، لكنني أعتقد أن
العظمة الحقيقية تبدأ من عظمة الإنسان على نفسه، وانتصاره على ما في
أغوارها من باطل، والعثور على معنى وجوده ورسالته في الأرض، والخدمة
والتضحية والبذل، وقد كانت الشونمية بهذا المعنى واحدة من العظيمات
اللواتي سطرت عظمتها في وحي الكتاب بأحرف بارزة جليلة، وقد يكون من الخير
والحق أن نتأمل قصتها العظيمة فيما يلي من صور:
من هي الشونمية
لم يذكر الوحي لنا اسم
المرأة، ولا نعلم سوى أنها من قرية شونم، والتي كانت تقع على بعد خمسين
ميلا إلى الشمال من أورشليم، وإلى سبعة أميال إلى الجنوب من المدينة التي
عرفت فيما بعد بالناصرة والتي عاش فيها المسيح مخلص العالم، ومع أننا لا
نعرف الكثير عن حياة هذه المرأة، إلا أننا نعلم أنها كانت من الطبقة
المتوسطة الغنية، وأن بيتها كان من البيوت الظاهرة في القرية، بل وربما
أغناها وأيسرها، وأن لقمة العيش كانت سهلة وميسورة، وأنها كانت تملك
أرضًَا، تدر عليها الوفير من العيش والحياة، وأنها يوم اضطرت إلى الهجرة
لمجاعة طارئة رد الملك لها أرضها المغتصبة، والحياة كانت هادئة وطيبة
للمرأة، حتى أن أليشع عندما سألها عما اذا كان يعوزها شيء، ردت بأنها
ساكنة في وسط شعبها، لا تقلق أحدا، ولا أحد يتعرض لها بالإقلاق أو
المضايقات أو الترفع على من حولها من القرويين أو الريفيين كما يفعل بعض
الثراة أو الأغنياء من أهل الريف، بل يبدو أنها كانت امرأة وديعة مجبولة
على روح الوداعة والتواضع، وكانت المرأة لها أكثر من ذلك الكرم القروي
الطبيعي غير المتكلف، فهي لا تعطي فحسب، بل تسر بالعطاء والجود والكرم،
وعلى وجه الخصوص الضيوف العابرين في الطريق، والغرباء الذين يحتاجون إلى
معونة ومساعدة، على أن المرأة تميزت أيضًا بالتقوى العميقة الصادقة، فكل
حركاتها وسكناتها، وكل مشاعرها وعواطفها، وكل ما صدر عنها من أفعال أو
انفعالات كانت تكمن وراءه روح امرأة تقية عميقة التقوى، تخاف الله وتحبه،
وتقبل منه الآلام والآمال، بوداعة وتسليم ورضا وخشوع وسكينة وحب!! ولعل
هذه كلها هي التي أعطتها ذيوعًا وشهرة أكثر من زوجها، الذي أخذ مكانه في
الظل إلى جوار شخصيتها القوية العظيمة الواضحة!!..
الشونمية ومظاهر عظمتها
وإذا كانت الشونمية، توصف في
المعنى العام بالمرأة العظيمة إلا أن مظاهر عظمتها قد ظهرت على وجه الخصوص
في بعض المواقف الموثرة البطولية في عرض حياتها وسيرتها، ويمكن أن تراها
بوضوح فيما يلي:
عظمة التقوى رغم الحرمان
من السهل على الإنسان أن
يتصور التقوى تسير سيرها المطرد المستمر، مع نجاح الإنسان أو خيره، أو
سلامته، أو مدى ما يتمتع به من دسم أو وفرة، ومع أن المرأة الشونمية كان
لها الكثير، لتشكر الله عليه، وتغني بالحمد لجلاله، إلا أنها رغم ذلك كانت
محرومة من أغلى ما كانت تحن إليه المرأة اليهودية في ذلك الوقت، بل أن هذا
الحرمان كان يصور في كثير من الأوضاع والصور، كغضب الله أو قسوته أو شدته،
عندما تكون المرأة عاقرًا لا تنجب أو تلد، ولعلنا نذكر المذلة التي كانت
تفيض بها مشاعرها من هذا القبيل، ولا يمكن أن ننسى في هذا المجال سارة
ورفقة وراحيل وحنة وغيرهن من النساء، ألم تؤثر راحيل الموت على حياة العقم
وعدم الإنجاب، وألم تبك حنة في مرارتها القاسية في بيت الله لأنه لم يكن
لها ولد!! ولعل الشونمية التي ظلت سنوات كثيرة بلا ابن، قد بكت مرات بلا
عدد أو حصر وهي أمام الله في الصلاة، أو في عزلتها من الناس، أو ربما
أمامهم، وهي تنشد الولد أو تحن إليه، ولكنها مع هذا كله لم يعرف منها أو
عنها قط حياة التذمر أو التمرد أو الشكوى أمام الله والناس، لقد كانت في
حرمانها المرأة التقية الزكية الإحساس المفعمة بالتسليم والسكينة والرضا
لقضاء الله وأمره، كما كانت بعد مجيئة، ذات المرأة الممتلئة بكل عرفان
وشكر وحمد لرحمته وإحسانه وجوده، بل لعلها كانت تقول مع أيوب، عندما تتعرض
للإحساس بتجربة لتذمر «هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا فقط أزكي طريقي
قدامه...» أجل كانت المرأة في كل عقهما، وبكل عمقها، مظهرًا عظيمًا لتقوى
المحرومين من هذا أو ذاك أمام الله..
عظمة الخدمة دون انتظار الأجر
ولعل المظهر الثاني لعظمة هذه
المرأة كانت روح الخدمة التي تتملكها، دون أدنى تفكير في رد أو جزاء بشري،
لقد خدمت أليشع وتعبت في خدمته، على النحو الذي أثار الرجل وحرك مشاعره،
فناداها، يطلب إليها أن يرد بعض المعروف مقابل ما سبب لها من انزعاج
واهتمام ومتاعب، ولكن المرأة تجيب بأنها لا حاجة لها إلى شيء وهي ساكنة
آمنة في وسط شعبها، لقد أوغلت في خدمتها إلى أليشع حتى أنها بنت له في
بيتها علية يأوى إليها كلما جاء أو عبر الطريق، دون أن تنتظر جزاء أو
شكراً، سوى احساسها العظيم بلذة الخدمة نفسها اللذة التي لا يستطيع أن
يدركها سوى أولئك الذين خرجوا من نفوسهم إلى الآخرين، ومن الأثرة إلى
الإيثار، ومن محبة الذات إلى محبة الجميع، كل من يمد يده إلى المتعب
والغريب والضائع والمشرد والبائس والباكي وما أكثرهم في كل زمان ومكان على
ظهر هذه الأرض!!..
عظمة السلام رغم وقوع الكارثة
على أن المرأة تبدو في أروع
صور العظمة عندما يموت ولدها الوحيد، قرة عينها، وبهجة قلبها، والذي جاء
بعد ما ذكرنا من الحرمان القاسي لسنوات متعددة طويلة، والذي عاش سنوات بلغ
فيها مرتبة الصبي، التي تجعله يخرج من البيت ويذهب لأبيه في الحقل، أو
يجري هنا وهناك كما يجري سائر الأولاد اللاعبين الضاحكين مثله وفي سنه،
وقد جاءت الضربة مفاجئة وغير متوقعة إذ كانت ضربة شمس وهو عند أبيه في
الحقل، وكانت مسرعة وقاسية ومذهلة، فما أسرع ما يصل الصبي إلى أمه، حتى
يموت قرب الظهيرة في حجرها، وهنا يقف الإنسان أمام مشهد من أدق وأقسى
المشاهد التي يمكن أن يراها المرء في حياة الناس، كيف تواجه المرأة
الكارثة وتتصرف إزاءها! لقد تحولت في دقائق ولحظات إلى أعظم صورة يمكن أن
تتصورها من العظمة في مواجهة الفاجعة والآلام، ومع أن المرأة في العادة لا
تنصرف بمفردها في مثل هذه المواقف التي تهزم أصلب الأعواد وأشجع القلوب،
إلا أنها مع ذلك حرصت على ألا يعلم زوجها شيئًا عن الأمر، إذ قصدت أن تلوذ
برجل الله والذي لم يكن في بيتها بل كان في الكرمل على بعد عشرة أميال على
الأقل، وإذ يستفسر الزوج عن سر ذهابها تجيب بكلمة واحدة: سلام... وعندما
تقترب من النبي، ويفزع إذ يراها مسرعة إليه فيرسل جيجزي بسؤال واحد: أسلام
لك. أسلام لزوجك. أسلام للولد تجيب أيضًا بكلمة واحدة: سلام! وكيف يمكن أن
يكون هناك السلام للنفس التعسة الحزينة المرة المفجوعة بل للنفس التي راضت
حياتها على الصورة الأولى من غير ولد، وكان يمكن أن تستمر هكذا حتى استيقظ
فيها الأمل بمجيء الغلام الذي أضحى هو الحياة بل أهم من الحياة عندها؟ كيف
يمكن أن يكون السلام وقد كانت في قصتها الأولى كمن يسير قريبًا من الأرض
لا يهتز إذا سقط عليها، ولكنه سرعان ما يصعد إلى أعلى الأدوار ليسقط، ولا
يترضض فقط، بل ليتهشم تهشيمًا، ويضحي أشلاء تذروها الرياح، وكيف يمكن
للإنسان أن يصل إلى السلام عندما يعصره الألم، وينضح بالتعاسة والدموع!
هذا موقف من أندر المواقف وأقساها، ولو أن المرأة واجهته بما لم تواجهه
امرأة أخرى إذ تغلق على ولدها ولا تذرف دمعة، ولا يعلو صوتها بتشنج أو
نحيب، بل تذهب بصمت مليء بالمرارة إلى رجل الله، لكانت من أعظم النساء
اللواتي عرفن في مواجهة الصدمات بشجاعة وصلابة وصبر في هذه الأرض، لكن
المرأة ارتفعت فوق المرارة والآلام والتعاسة والأحزان التي لا توصف بشيء
أسمى وأعلى وأمجد!!... لقد كانت أشبه بالطائر المرتفع الذي يشق طريقه إلى
أعلى السموات مرتفعًا فوق الغيوم والسحب والأمطار ليواجه الشمس المشرقة
الرائعة العظيمة، لقد واجهت المرأة المحنة بإيمان عجيب، قل أن يكون له
نظير أو مثيل في حياة الناس، لقد آمنت أن الولد الذي جاء بمعجزة، سينهض من
الموت ويقوم أيضًا بمعجزة، وقد حول هذا الإيمان نارها الملتهبة سلاماً
وعذابها الذي لا يوصف هدوء وسكينة، لايمكن أن تكون من صنع الإنسان أو من
قدرة ذاتية عنده، بل من روح الله وشخصه المبارك الذي لا يترك المؤمن، بل
يجتاز معه الأتون المحمي سبعة أضعاف ويخرجه منه على نحو خارق من البهاء
والجمال والعظمة على مشهد من الجميع ويصورة تذهب مضرب المثل كلما ذكرها
الناس كواحدة من أقسى التجارب في حياة البشر على هذه الأرض!! وهل هناك
عظمة يمكن أن تداني هذه العظمة في مواجهة المحن والآلام.
الشونمية وجزاؤها المبارك
كانت الشونمية، وهي تأخذ
جزاءها من الله، أشبه بذلك القديس الذي تذكر القصة الخيالية أن الله طلب
منه أن يختار أية عطية سيمنحها له المولى مهما كانت غالية وعظيمة وكريمة
وأبي القديس وهو يقول الله: لقد أعطيتني ياسيدي فوق ما أطلب أو أحتاج،
وأنا أسير إحسانك وجودك، ولا يعوزني قط شيء من الخير، وأجابه الله: ولكني
أريد أن أعطيك أكثر فاطلب ما تشاء أو تريد!.. وقال الرجل: إذا كان ولابد
يا مولاي!! فاني أرجو أن تعطيني أن أفعل الخير دون أن أحس إني فعلته أو
قمت به!! وقال الله له: ليكن لك ذلك!.. وكان الرجل يسير فإذا وقع ظله على
مريض شفي وبريء دون أن يشعر!! ولعله من الملاحظ أن المرأة لم تطلب الولد
عندما سألها أليشع ولكن الولد جاء نتيجة ملاحظة جيحزي، إن البيت خال من
ابن! لقد قدمت المرأة خدمتها وترحيبها وعطاياها تحت إحساسها العميق، بأن
هذا ليس من واجبها فحسب بل هو امتيازها الأعظم أيضًا، ورأى الله أن المرأة
أقرضته وأعطته وهو لا يقبل أن يكون مديونًا لأحد، وهو إذ يعطي إنما يعطي
أضعافاً مضاعفة لا يمكن أن توازن بما يقبل أو يأخذ، ألم يقل السيد: «من
يقبل نبيًا باسم نبي فأجر نبي يأخذ ومن يقبل بارا باسم بار فأجر بار يأخذ
ومن سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم إنه
لا يضيع أجره».. وهل ضاع أجر المرأة، ألم تأخذ الولد، ولم تأخذه مرة واحدة
في الحياة. بل أخذته مرتين؟ وألم تأخذ خيرًا سابقًا ولاحقاً لما قدمت لرجل
الله من ضيافة أو كرم، عندما فاض عليها الله بالخيرات الكثيرة في بيتها،
وعندما حفظ الله لها أرضها طوال المجاعة التي استمرت سبع سنوات، واغتصب
الغاصبون حقلها، فلم يرد لها الملك الحقل عندما صرخت إليه فحسب، بل رد لها
أكثر من ذلك غلاته التي أخذت طوال فترة غيابها عن شعبها وبلادها، طوال
السبع السنوات من المجاعة القاسية.
أيتها الشونمية العظيمة! هل
يتعلم الناس، وهم يبحثون عن العظمة كيف تكون أصلا في العادي من الحياة في
السماحة والجمال والدعة والخدمة بينهم، قبل أن تكون في طلب الخوارق
والعجائب والمعجزات، والله على استعداد أن يعطي هذه وتلك، لمن يعيش ويحيا
كما عشت وحييت، وكنت بحق في الحالتين كما ذكر الوحي «وفي ذات يوم عبر
أليشع إلى شونم وكانت هناك امرأة عظيمة».