قصة عجيبة جدا وحقيقية
منذ عدة سنوات في إحدى حواري مصر القديمة، وفى دير بسيط على اسم القديس مرقريوس "أبي سيفين"، الذي هو أشبه بكنيسة صغيرة ملحق بها مبنى قديم، كان يقطن عدد قليل من الراهبات البسيطات، تركن بيوتهن وجئن بقصد الصلاة والتسبيح. لقد حلقن رؤوسهن علامة تركهن زينة الجسد واهتماماته، وارتدين الثياب السوداء ليس حزنًا أو ضيقًا بل رغبة في عدم الانشغال بشيء إلا بما هو ضروري للحياة.
وسط هؤلاء الراهبات البسيطات عاشت الأم الرئيسة "تاماف كيرية"، أمًا لبناتها الراهبات، تخدمهن وتسهر على رعايتهن روحيًا وجسديًا.
في هذا الجو الهادئ، البعيد عن كل العالم والسياسات الكنسية، اعتاد أحد أثرياء الصعيد من أبي قرقاص أن يقدم، حاملاً في يديه بعض التقدمات العينية للدير. يأتي الغني إلى القاهرة لقضاء بعض مصالحه الخاصة، وعند الظهيرة يزور الدير ليجلس مع تاماف كيرية بقية اليوم يستعذب سير القديسين، ويسعد بحديثها عن عمل اللَّه ومحبته ورعايته.
تجديد الطواحين
قرر الرجل أن يجدد "طواحينه"، فعرض بعضها للبيع. لا حظ أحد سائقي سيارات الأجرة الأشقياء الرجل وقد تكدست الحقيبة بالأموال، فصمم أن يغتصبها مهما كلفه الأمر.
بدأ السائق يتجاذب الحديث مع الرجل حتى انتهى بسؤاله أن كان يريد الذهاب إلى أبي قرقاص في سيارته الأجرة، فأجاب الرجل بالإيجاب واتفق معه على الأجرة.
ما أن ركب الغنى السيارة حتى بدأ السائق يتحدث معه بلطف ليكوّن معه شيئًا من الصداقة. وإذ اقترب بالسيارة من قرية "كفر عمار"، وهى بلدة السائق، تظاهر بوجود عطل بسيط في السيارة، فاستأذن الرجل أن يميل إلى القرية لكي يقوم بإصلاح السيارة في دقائقٍ بسيطةٍ، والرجل في طيبة قلبه وافق.
مال السائق إلى قرية كفر عمار، وأمام كوخ بسيط توقف، ودخل الكوخ ثم عاد يحمل بعض "العدد" الميكانيكية، وتظاهر بإصلاح موتور السيارة، وقد طمأن الغنى أنها دقائق بسيطة!
في سرعة عجيبة كان السائق قد التقى باثنين من أقربائه داخل الكوخ. قال له أحدهما: "لماذا عدت سريعًا" "أصمت!" هكذا أجاب السائق وقد وضع إصبعه على فمه، وأمسك بالرجلين ودخل بهما إلى حجرة داخلية. وفى صوت خافت، قال لهما: "أخرجا من الباب الخلفي، وأسرعا إلى الطريق خارج القرية، وتظاهرًا أنكما تريدان عونًا مني أن أقوم بتوصيلكما إلى قرية في طريقنا إلى أبي قرقاص. إن الرجل الذي معي في السيارة بسيط، ويحمل حقيبة قد شحنت بالأموال النقدية".قال له أحد الرجلين: "كيف نغتصبها" أجاب السائق: "لا تخافا"، فان الرجل سيقبل أن تركبا معنا، وفى الطريق أنا أعرف مكانًا قفرًا، هناك نقتل الرجل ونأخذ حقيبته".
لم يكن يُوجد وقت لنقاشٍ أطول‘بل أسرع الرجلان ينفذا الخطة، وخرج السائق إلى السيارة يصلحها.
ركب السائق وبدأ يقود وهو يعتذر للرجل عن التأخير، لكن الرجل كان يلاطفه، مؤكدًا له أن كل الأمور إنما تسير للخير، وأنه ليس بمتضايق.
((الأشقياء الثلاثة))
عاد السائق يسترجع الحديث مع الغنى مظهرًا أنه يستمتع بكلماته، ويستريح لشخصه، وينتفع بحكمته وخبرته، وفى بساطة عاد الرجل يتحدث. فجأة تطلع السائق فرأى الرجلين من بعيد يشيران إليه أن يتوقف، وفى تهكم قال السائق: ماذا يريد هذان الرجلان ألعلهما يريدان أن يركبا!
وقبل أن يجيب الغنى كان السائق الشقي وصل إلى الرجلين وتوقف، وفى خشونة سألهما:
- ماذا تريدان
- هل يمكن أن تأخذنا معك في الطريق وندفع لك ما تريد
- آسف، فإن "البيه" مستأجر العربة إلى أبي قرقاص.
- نحن سننزل في نفس الطريق.
- آسف، اسألوا "البيه" إن كان يريد.
عندئذ بدأ الرجلان يستأذنان الغنى إن كان يسمح لهما بالركوب، فلم يمانع. ركب الشقيّان السيارة، وأدرك الثلاثة أن خطتهم قد نجحت تمامًا. وبسرعة هائلة كان السائق الشقي يطوي الطريق طيًا، وحين اختفى كل العمران وبجوار ترعة توقف السائق فجأة.
هنا أفاق الغنى لنفسه وأدرك أن الخطر يحدق به لا محالة، فقد ظهرت علامات الشر على وجوههم، ولم يعرف ماذا يفعل. بدأ يسألهم، بل يتوسل إليهم قائلا: ماذا تريدون
- الحقيبة!
- إذن خذوها واتركوني!
- لا نقدر، فإنك تخطر الشرطة!
حاول الرجل أن يؤكد لهم إنه لن يفعل ذلك، لكن توسلاته كانت كالهباء، وبدأ الثلاثة يتشاورون بسرعة كيف يقتلونه.
في لحظات خاطفة رفع الرجل أنظاره إلى اللَّه، وتذكر عمل اللَّه مع الراهبات بقديسه أبي سيفين، وفى صرخة مرة خرجت من القلب طلب معونة إله أبي سيفين!
حاول الأشقياء الثلاثة أن يمسك كل منهم بيد الآخرين، فقد تراجعوا إلى الوراء مبهورين. لقد ارتفع الرجل وبيده الحقيبة قليلاً عن الأرض، وأمسكه من الخلف أحد الضباط، وطار به نحو الضفة الأخرى من الترعة.
هل هذا حلم أم حقيقة!
لم يصدق الأشقياء الثلاثة أعينهم، ولم يستطع أحدهم أن يفتح فاه ليعلق، حتى الغنى كان في حالة ذهول!
خشي الرجال أن يلقى الضابط القبض عليهم، وفى غير وعي دخلوا السيارة، وأسرع السائق في جنون مع خوف ورعدة... واختفي منظر السيارة!
نسي الغنى أمر الحقيبة التي يمسك بها وهو لا يدرى، ونسي تهديدات الرجال الأشقياء، لكنه كما في ذهول، تارة يتطلع إلى الضابط الذي أخذ يربت على كتفيه يطمئنه، وأخرى ينظر نحو الضفة الأخرى للترعة فلا يجد أثرًا للسيارة، وثالثة يحدِّق شمالاً ويمينًا يحدق بعينيه وهو بلا حراك!
مرت دقائق وكأنها ساعات والضابط يلاطف الرجل ويعاتبه. لقد جلس بجواره يؤكد له ألا يخاف، فإنه لن يتركه حتى يطمئن عليه تمامًا، وكان أيضًا يعاتبه كيف يتصرف هكذا بغير حكمة! كيف يجمع الأموال في الحقيبة أمام الآخرين!
طال حديث الضابط مع الغنى حتى هدأت أعصاب الرجل تمامًا، ثم نقله إلى الضفة الأخرى إلى حيث كان. وهو يقول له:
"لا تخف، فإني أرسل لك أحد أحبائي!"
لقاء الأحبَاء
لم تمضِ دقائق حتى ظهرت في الطريق سيارة "مرسيدس" ملاكي مسرعة... أوقفها الضابط. بدأ الضابط يسأل عن الطريق الذاهب إليه، وإذ أجابه وعرف منه أنه يعبر بأبي قرقاص سأله أن يأخذ الرجل معه، فأظهر صاحب السيارة كل قبول ورضى. عندئذ أكد له الضابط أن الرجل حبيبه، وأن يهتم به ويقوم بتوصيله حتى منزله.
ركب الغنى السيارة ومعه حقيبته وإذ اطمأن الضابط عليه، فجأة اختفى! لم يتحرك السائق وأخذ يسأل الرجل: أين الضابط الذي كان يتحدث معي
- ذهب!
- أين ذهب
- عاد إلى مكانه!
بدأ السائق يقول له لم يذهب إلى أي موضع... فأين ذهب عندئذ أجابه الرجل: إنه أبوسيفين.
لم يصدق الرجل نفسه حتى روى له الغني قصته كاملة. وأوضح له كيف قال عنه إنه "حبيبه". عندئذ عاتبه صاحب السيارة: "ولماذا لم تقل لي لكي آخذ بركته قبل أن يختفي". وبدأ الاثنان يتحدثان عن عمل اللَّه في قديسه أبي سيفين، فقد كان صاحب السيارة يخدم في كنيسة لأبي سيفين ويعرف الكثير عن بركات هذا القديس.
وفى اليوم التالي غادر الرجل أبي قرقاص وجاء إلى دير أبي سيفين بمصر القديمة يقدم الشكر للَّه الذي يتمجد في قديسيه ويروى لتاماف كيرية وأمهات الدير ما حدث معه.
بركة صلوات وشفاعه الشهي العظيم ابو سيفين تكون معانا جميعا امين.